أهمية التوحيد ( لفضيلة الشيخ العلامة صالح الفوزان )
معنـى التوحيـد:
التوحيد معناه: إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة وترك عبادة ما سواه.
وهذا الموضوع تكرر ذكره في كتاب الله عز وجل ولا محال تخلو سورة ممن سور القرآن العظيم إلا وفيها ذكر للتوحيد وأمر به وحث عليه وهباك سور كثيرة وخصوصاً المكية تكون من أولها إلى آخرها في موضوع التوحيد، بل إن الأمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "مدارج الساكين" يقول: إن القرآن كله في التوحيد لأنه إما خبر عن الله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته وأمر بعبادته وحده لا شريك له ونهي عن الشرك ، وإما بيان لجزاء الموحدين الذين أخلصوا العبادة لله عز وجل في الدنيا والآخرة وبيان لجزاء المشركين الذين أعرضوا عن التوحيد وما حل بهم من العقوبات في الدنيا وما ينتظرهم في الآخرة ، وإما إخبار عن الموحدين من الرسل وأتباعهم أو إخبار عن المكذبين من المشركين وأتباعهم من الأمم السابقة كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات وغيرهم من الأمم لما أعرضوا عن التوحيد وعصوا الرسل وماذا حل بهم ، وإما بيان الحلال والحرام وهذا من حقوق التوحيد فالقرآن كله توحيد لأنه إما لبيان التوحيد وبيان مناقضاته ومنقصاته ، وإما إخبار عن أهل التوحيد وما أكرمهم الله به أو إخبار عن المشركين وما انتقم الله تعالى منهم به في الدنيا وما أعد لهم في الآخرة ، وإما أحكام حلال وحرام وهذا من حقوق التوحيد فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه ومفسداته ومبطلاته فالقرآن كله يدور على التوحيد.
إن بعض الناس اليوم من جهلة الدعاة وأقولها بأسف لأنه لا يصلح للدعوة من كان جاهلاً لا يجوز أن يدخل في مجال الدعوة إلا من كان عالماً مسلحاً بالعلم ولكن فيه من جهلة الدعاة من يهونون من شأن التوحيد ويقولون الناس مسلمون وانتم في بلاد مسلمين, العالم الإسلامي ليس بحاجة إلى من يلقي محاضرات في التوحيد أو يقرر مقررات في المدارس في التوحيد أو يقرأ كتب التوحيد بالمساجد هكذا يقولون..! ، وهذا من الجهل العظيم لأن المسلم أحوج من غيره لمعرفة التوحيد من أجل أن يحققه ومن أجل أن يقوم به ومن أجل أن يبتعد عما يخل به أو يناقضه من الشركيات والبدع والخرافات ما يكفي أن يكون مسلماً بالاسم من غير أن يحقق الإسلام ولن يحققه إلا إذا عرف أساسه وقاعدته التي يبنى عليها وهو التوحيد. فإن الناس إذا جهلوا التوحيد وجهلوا مسائل الشرك وأمور الجاهلية فإنهم حينئذٍ يقعون في الشرك من حيث يدرون أو لا يدرون وحينئذٍ تقوض عقيدة التوحيد كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: [ إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية ] وهل كل المسلمين يعرفون أمور العقيدة ويعرفون التوحيد ؟ إذا كان العلماء يعلمون هذا فالعلماء قلة وأقل من القليل العلماء بالمعنى الصحيح أقل من القليل وكلما تأخر الزمان فإن العلماء على الحقيقة يقلون ويكثر المتعالمون ويكثر القراء ويكثر الرؤوس الجهّال كما قال صلى الله عليه وسلم :[ إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض هذا العلم بموت العلماء حيى إذا لم يبقى عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهّالا فأفتوا بغير علمٍٍ فضلوا وأضلوا ] وفي حديث آخر أنه في آخر الزمان يقل العلماء ويكثر القرّاء وفي أثر آخر يكثر الخطباء في آخر الزمان ويقل الفقهاء ومن هنا يجب علينا أن نهتم بجانب التوحيد وأن نعتني به عناية تامة بأن ندرسه وندرّسه ونحاضر فيه ونعقد فيه الندوات ونشكل به البرامج في وسائل الإعلام ونكتب في الصحف وندعو إلى التوحيد رضي من رضي وغضب من غضب لأن هذا أساس ديننا وهذا مبنى عقيدتنا ونحن أحوج الناس إلى أن نتعرف عليه وأن نتدارسه وأن نبينه للناس.
في العالم الإسلامي ـ ماعدا هذه البلاد التي حماها الله بدعوة التوحيد ـ المشاهد الشركية المشيدة على القبور كما تسمعون عنها أو كما رآها بعضكم ممن سافر، الدين عندهم هو الشرك وعبادة الموتى والتقرب إلى القبور ومن لم يفعل ذلك عندهم فليس بمسلم لأنه بزعمهم يتنقّص الأولياء كما يقولون وهناك دعاة لا يهتمون في تلك البلاد بأمر التوحيد مع الأسف إنما يدعون الناس إلى الأخلاق الطيبة وإلى ترك الزنا وترك شرب الخمور هذه كبائر محرمات بلا شك ولكن حتى لو ترك الناس الزنا وشرب الخمور وحسنوا أخلاقهم وتركوا الربا لكن لم يتركوا الكبائر ما داموا أنهم لم يتركوا الشرك وحتى من لم يشرك ما دام أنه لا ينكر الشرك ولا يدعوا إلى التوحيد ولا يتبرأ من المشركين فإنه يكون مثلهم ولهذا يقول جل وعلا لنبيه (( وما أنا من المشركين )) ]سورة يوسف-108[ ، هذا فيه البراءة من المشركين، فالمسلم الموحد لابد أن يتبرأ من المشركين ولا يسعه أن يسكت والشرك يعج في البلد والأضرحة تبنى والطواف بالقبور معمور ولا يسع من يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسكت على هذا الوباء الخطير الذي يفتك بجسم الأمة ويقول لا ادعوا الناس إلى حسن السيرة والسلوك وترك الخمور وترك الزنا، وماذا تجدي هذه الأمور مع فقد الأساس ؟ أنت لما تبني بناءً ألست أول شيء تهتم بالأساس والقواعد من أجل أن تقيم البناء الصحيح وإلا إذا لم تهتم بالأساس ولم تهتم بقواعد البناء فإنك مهما شيدته ونمقته فإنه عرضة للسقوط ويكون خطراً عليك وعلى من دخل هذا المبنى ، كذلك الدين إذا لم يقم على عقيدة سليمة وأساس صحيح وتوحيد لله وتنزيه عن الشرك وإبعاد للمشركين عن موطن الإسلام فإن هذا الدين لا ينفع أهله لأنه دين لم يبنى على أساس ولم يبنى على قاعدة سليمة.
النبي مكث بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى التوحيد يقول للناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ـيدعو إلى التوحيد ـ.السور المكية كلها تعالج قضية التوحيد وتأسيس العقيدة ثم لمّا تأسس التوحيد وقامت العقيدة نزلت شرائع الإسلام ، نزل الأمر بالصلاة والأمر بالزكاة هذا إنما نزل بالمدينة ـ الصلاة فرضت على النبي في مكة ليلة الإسراء والمعراج قبل الهجرة بأشهربعد تأسيس التوحيد وبعدما بنيت العقيدة ثم نزلت الزكاة ونزل الصيام والحج وبقية شرائع الإسلام ـ ، ويوضح هذا جلياً أن الرسول لما بعث معاداً رضي الله عنه إلى اليمن رسم له منهج الدعوة وقال له: [ إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم ] .
التوحيد هو أول شيء أمر النبي معاداً بالدعوة إليه وهذا ليس خاص بمعاد، هذا عام لكل من يدعو إلى الله عز وجل أن نبدأ بهذا الأصل فإن هم أطاعوك لذلك وشهدوا أن لا إله إلا الله واعترفوا بعقيدة التوحيد حينئذٍ مرهم بالصلاة والزكاة أما بدون أن يقروا بالتوحيد فلا تأمرهم بالصلاة لأنه لا فائدة للصلاة والزكاة ولجميع الأعمال ـ ولو كثرت ـ بدون توحيد. قال اله سبحانه وتعالى (( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ))] سورة الزمر 65-66[ ، وقال الله تعالى لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم في قوله تعالى (( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون…… إلى قوله تعالى …… ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون )) ]سورة الأنعام 83...88[. الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أول ما يبدءون بدعوة التوحيد قال الله تعالى في نوح علية السلام (( لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره )) ]سورة الأعراف 59[ ، وقال تعالى (( وإلى عادٍ أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره )) ]سورة هود 61 [ ، ((وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره )) ]سورة هود 61 [، (( وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره)) ]سورة هود 84[ ،بل إنه سبحانه وتعالى أجمل الرسل في قوله (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة))]سورة النحل 36 [ وقال تعالى((وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله أنا فاعبدون)) ]سورة الأنبياء 25.[
هذا هو الأساس وهذا هو الأصل وهذا هو القاعدة، فكيف نزهد في هذا الأمر ونغفل عنه ونخطّئ من يدعو إليه ويقال عن هذا يفرق بين المسلمين! لا هذا لا يفرق بين المسلمين هذا يجمع كلمة المسلمين لأن كلمة المسلمين لا تجتمع إلا على كلمة التوحيد ولا يستتب الأمن والاستقرار إلا على التوحيد قال الله سبحانه وتعالى (( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً )) ]سورة النور55 [، بهذا الشرط هذا هو الأساس إنما تحصل هذه المطالب العظيمة بعبادة الله وحده لا شريك له " يعبدونني لا يشركون بي شيئاً "، فلا تجتمع كلمة الأمة ولا يصح بناء الأمة إلا على كلمة التوحيد، ـ على عقيدة التوحيد الصحيحة ـ أما إذا دخل الشرك وتفشّت البدع والخرافات وتركت وقيل اتركوا الناس، الناس أحرار في عقائدهم اتركوهم لا تنفروهم، بهذا يحصل الاختلاف ويحصل التفرق ويدخل الشيطان بين صفوف المسلمين فيفرق جماعتهم كما هو الواقع. أضرب لكم مثلاً في هذه البلاد:
هذه البلاد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله إلى التوحيد كانت متفرقة كل قرية لها أمير وحكومة وكل قرية تخض للأخرى وكل قرية تحارب الأخرى بل يذكر التاريخ أن أهل القرية يتقاتلون فيما بينهم ـ سلب ونهب وقتل وقتيل ـ، فلما جاء الله بهذه الدعوة المباركة على يد هذا الرجل الصالح المفلح توحدت البلاد وصارت تحت قيادة واحدة وصارت لها دولة قامت على الدين وعلى التوحيد ولا زالت ولله الحمد، هذا لأنه أسس التوحيد، لكن قبل أن يؤسس التوحيد في البلاد كانت البلاد متفرقة وكانوا يتبركون بالأشجار والأحجار وكان السحرة يعملون عملهم بين الناس وكان المشعوذون يتجولون في القرى ويخربون عقائد الناس وكان الحكم عند القبائل والعوائد الجاهلية ما فيه حكم بالشرع ولا فيه عقيدة صحيحة ولا فيه اجتماع، ملما جاء الله بهذا النور وبهذه الدعوة المباركة توحدت البلاد واطمأن العباد وأقيمت الحدود وأمر بالمعروف ونهي من المنكر وصار المسلمون أخوة، هذا ببركة عقيدة التوحيد الصالحة الصحيحة.
وحالة العرب قبل بعثة الرسول كانوا متفرقين متشتتين ـ ثارات وغارات وقبائل ـ فلما بُعث النبي ودعاهم إلى التوحيد واستجابوا لله ورسوله توحدوا وصاروا قوة هائلة في الأرض سادت العباد والبلاد وذكرهم الله تعالى بقوله (( واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون )) ]سورة آل عمران-103 [، الله سبحانه وتعالى بين ما كانت عليه حالتهم قبل دعوة الرسول وما كانت عليه بعد دعوته واستجابتهم له، ويقول الله سبحانه وتعالى: (( لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين )) ]سورة آل عمران-164 [، كانوا قبل بعثة الرسول في ضلال مبين وكانوا مطمعاً للشعوب الأخرى ـ فارس واروم ـ وكل دولة من دول الكفر كان لها نصيب في جزيرة العرب فلما جاء الإسلام ودخلوا في دين الله انعكس الأمر فصارت جزيرة العرب تسيطر على العالم وامتدت الفتوح وانتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً. والإمام مالك رحمه الله يقول: [ لايصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها ] فإذا كانت هذه الأمة الآن تريد الاجتماع وتريد القوة وتريد الائتلاف فإنه لا يصلحها إلا ما أصلح أولها، الذي أصلح أولها هو التوحيد ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بالتوحيد والاجتماع على كلمة التوحيد وعلى كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله .
هذا هو الذي يجمع الأمة " العقيدة الصحيحة والعمل الصالح "، الله تعالى يقول
( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق)) ]سورة الفتح-28 [.
الهدى هو العلم النافع ودين الحق هو العمل الصالح ولا يمكن أن تجتمع هذه الأمة إلا بالعلم النافع والعمل الصالح الذي أساسه التوحيد وإفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة.